المادة    
وهذه العبارة التي قالها السلف، ونقلها شيخ الإسلام وكذلك ابن القيم رحمهما الله، وهي: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، هي مدخل لمعرفة الزنادقة، وإن شئت فقل: إذا عرفنا أن الحرورية هم من غلبوا الخوف، وعرفنا أن المرجئة هم من غلبوا الرجاء، عرفنا أن الزنادقة الذين غلبوا المحبة أو العشق الإلهي بزعمهم وهم الصوفية ، فهذه العبارة تدل على أن السلف الصالح كانوا ينظرون إلى حقيقة هذه الفرقة بأنها تنتحل الكذب والادعاء، ولا نعني كل من انتسب إلى التصوف، إنما نعني الدعاة الذين يضرب بهم المثل أو القدوات في هذه الطريق الضال، لا من نسب إليه ذلك ظلماً أو كان ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فالمقصود من يمثل المنهج حقيقة، فاسمه عند السلف زنديق، وحاله هو الزندقة.
فالمحبة الإيمانية حق لا ريب فيه؛ لأن الله تعالى يقول: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ))[البقرة:165]، ويقول: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[آل عمران:31]، وقال في اليهود والنصارى: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18]، فلم ينكر الله أن له أحباباً، ولكنه أنكر دعوى من يدعي المحبة وهو ليس من أهلها، فعلامة المحبة ومقتضاها اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة مراضي الله، وأن يقبل العبد على طاعة الله بقلب منشرح وهو يعلم أنه بذلك يتقرب إلى الله، وأن يحب من أحب الله ويبغض من أبغض الله، فهي المحبة التي تدفع صاحبها إلى الخير وإلى العمل وإلى الاتباع، ولهذا يقول شيخ الإسلام: (أصل أعمال القلوب جميعاً هما الصدق والمحبة، فالصدق أساس جميع الأقوال، والمحبة أساس جميع الأعمال، وهل الدين إلا قول وعمل؟!) كما قال البخاري رحمه الله: (لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل)، ولو أن أحداً عبد الله ما عبده وهو غير محب لله وغير محب لعبادته ما قبل الله منه ذلك أبداً، ولو أن أحداً عبد الله ما عبده وهو لا يحب رسول الله لما نفعه ذلك مطلقاً.
نعم الناس يتفاوتون فيها، لكن لا بد من قدر منها تقبل الأعمال به، فالعمل الذي يؤدى وصاحبه مكره عليه ولا يحبه لا يقبل منه، كما قال تعالى عن المنافقين: (( وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ))[التوبة:54]، فمهما أنفقوا لا تقبل نفقاتهم، ومهما صلوا لا تقبل صلاتهم.
إذاً: لا بد من المحبة، ولكن ليست المحبة التي يعنيها أولئك القوم، فالذي يتكلم فيه الصوفية هو في حقيقته زندقة وليس محبة، ولقد أشرنا من قبل إلى كلام رابعة العدوية التي يزعمون أنها شهيدة العشق الإلهي، ويضربون بها المثل في المحبة الإلهية، وهنا سنفصل في حقيقة هذه المحبة من خلال الكلمة التي قالها أبو داود عن رابعة ومن كان معها.
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله في الميزان -ونقل ذلك ابن حجر في لسان الميزان - في ترجمة رياح بن عمرو القيسي الذي له ترجمة في حلية الأولياء: (قال أبو عبيد الآجري : سألت أبا داود) وهو صاحب السنن المعروف تلميذ الإمام أحمد (عنه فقال: هو وأبو حبيب و حبان الجريري و رابعة رابعتهم في الزندقة)، ولا شك في أن هناك تحريفاً في العبارة، فـحبان هو في الحقيقة ابن حيان المشهور الذي يدعى جابر بن حيان ، ورياح كان يقال عنه: رأس المبتدعة في الكوفة من الزهاد.
فهذه العبارة تفسر وتوضح أصل الزندقة في هذه الطائفة المسماة بـالصوفية؛ لأن اسم الصوفية لم ينتشر إلا متأخراً، فقد كان اسمهم الزنادقة، ثم سموا فيما بعد بـالصوفية ، واشتبه على الناس تسميتهم بذلك.